محمود خطاب السبكي، المؤسس الأول للجمعية الشرعية ومن علماء الأزهر البارزين ألف كتبا كثيرة، منها الدين الخالص في تسعة مجلدات، والمنهل العذب المورود في أربعة عشر مجلدا، لم يتلق تعليمًا في بداية حياته، وعمل بإدارة الأعمال الزراعية لوالده -عمدة القرية- وفي سن السابعة عشرة تزوج، ثم إرتبط بالطريقة الصوفية الخلوتية، فتعلم القراءة والكتابة حبا في العلم.
¤ مولده ونشأته:
ولد الشيخ محمود خطاب السبكي في أول يوليو 1858م، بقرية سبك الأحد، محافظة المنوفية، وحفظ القرآن في كتاب القرية، وعمل في كثير من أعمال والده في البداية مثل رعي الغنم وسياسة الخيل ونبغ في صيد الأسماك والطيور، كما اهتم بتعلم الفروسية وتدرب على السلاح مثل الرمي بالبندقية، وظلت الرماية من أحب الهوايات إليه حتى آخر حياته، وظل يمارس الزراعة والرعي فترة من حياته حتى حدث التحول الكبير الذي أدي به إلى طلب العلم في الأزهر في سنة 1297هـ أي بعد أن وصل إلى سن كبيرة نسبيًا حوالي 23 عامًا، وظل يحصل العلوم الشرعية على مذهب الأمام مالك، وحصل على العالمية سنة 1896 م ـ 1313 هـ، وأخذ يلقي الدروس بالأزهر الشريف في علوم الفقه والتفسير والحديث، ومن أهم مؤلفات الشيخ: كتاب الدين الخالص، وكتاب شرح سنن أبي داوود.
وتعد أهم أعمال الشيخ تأسيس الجمعية الشرعية في سنة 1331 هـ- 1912 م، وقد ترأس هذه الجمعية حتى وفاته.
¤ نضاله ضد الإحتلال الإنجليزي:
عاش الشيخ فترة الشباب والرجولة والكهولة تحت حكم الإستعمار الإنجليزي لمصر، وكان من الطبيعي أن يصطدم بسلطات الإحتلال الإنجليزي، نظرًا لأن النشاط الديني للشيخ كان يحمل في طياته نشاطًا سياسيًا ظاهرًا أو باطنًا، فإنشاء الشيخ لجمعية إسلامية تنظم شئون الأعضاء وترعاهم وتحقق نوع من التكافل بينهم، هو في ذاته تقوية للتماسك الإجتماعي المصري ضد الإحتلال، وكذلك دعوته إلى التميز في السلوك والزي والأخلاق والتمسك في ذلك كله بشرائع الإسلام الحنيفة يحمل في طياته دعوة لمقاطعة ورفض القيم والسلوكيات الغربية عمومًا والإنجليزي خصوصًا، ولا شك أن التميز في السلوك والزي والأخلاق وغيرها إحدى وسائل الصمود أمام الإستعمار الذي يستهدف دائمًا تدمير السلوك والأخلاق الوطنية، بإعتبارها أحد وسائل رفض الإستعمار، وأحد وسائل منع الإستعمار من تحقيق أهدافه وتسريب قيمه وجعله مقبولاً من الشعب وتقليل هامش الرفض الشعبي له.
وعلى كل حال فلم تقتصر المسألة على هذا الجانب غير المباشر من النضال بل تعداه إلى الجانب المباشر، فالشيخ محمود خطاب السبكي دعا إلى مقاطعة المنسوجات والبضائع الإنجليزية، بل قام بإنشاء بعض معامل النسيج لكي يعطي البديل المتاح وهو المنسوجات المصرية، والشيخ هنا يمارس سلاح المقاطعة الإقتصادية، ولا شك أن ذلك السلاح من أهم أسلحة الشعوب في مواجهة الإستعمار الذي يحرص على جعل المستعمرات سوقًا لمنتجاته.
ووفقًا لسجل محاضر جلسات مجلس إدارة الجمعية، فإن شهرة المنسوجات التي أنتجتها المعامل التابعة للجمعية أدت إلي أن اقترحت مصلحة الصناعة والتجارة أن توافي المصانع والمعارض التابعة للجمعية القناصل المصرية في الخارج بعينات من مصنوعاتها المختلفة مع بيان مقاساتها وأثمانها وعناوين تلك المؤسسات القائمة بهذا النوع من النشاط الصناعي، وبالفعل أرسلت المؤسسات التابعة للجمعية العينات المطلوبة.
وهكذا قام الرجل بعمليتين في وقت واحد، فهو أستخدم سلاح المقاطعة، وقام ببناء صناعة وطنية في نفس الوقت، والعجيب أنه أستهدف التصدير، أي ليس فقط محاربة الإنجليز إقتصاديًا في مصر، بل وخارجها أيضًا.
وفي هذا الإطار أيضًا كان الشيخ ينشر الآراء والأفكار والمحاضرات التي تحض على محاربة الإنجليز، ففي كتاب الدين الخالص قال: إن المسلمين الآن تحت سيطرة الإستعمار لأنهم لم يقيموا الدين كما أمروا فلم يتخلوا عن النواهي، ولم يتحلوا بالأوامر، بل أفرطوا في تقليد الأجنبي في الضار دون النافع، قلدوه في أكل الربا وشرب الخمر وإباحة الزنا والتبرج وخروج النساء وإستحمامهن في البحار، قلدوهم في الحكم بالقانون الوضعي ونبذ القانون السماوي ولم يرتدعوا بقوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وتركوا ما أمرهم مولاهم به بقوله {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فخذلهم الله وسلط عليهم من لا يرحمهم لأنهم تركوا الدين وراء الظهر فتركوا إلى الذل والهوان، وذلك لأن الإنتصار على الأجنبي خاص بمن نصر دين الله وتمسك به وسلك طريق النبي، قال الله تعالى {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} وقوله تعالى {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} فنصر الدين من الإيمان ومن نصره نصره الله في الدنيا والآخرة، ومن لم ينصره فقد باء بالخزي والذل والهوان في الدارين.
وعلى الجانب الآخر فإن الإنجليز أحسوا بخطورة الشيخ ففرضت سلطات الاحتلال الإنجليزي رقابة على دروسه وعلى ما يصله من رسائل، وبعد أن اكتشفوا أن هناك حركة لإشتعال الثورة يشارك فيها الشيخ بالاتصال بالعثمانيين، بادروا إلى إعتقاله سنة 1914، وتم تفتيش منزله ومنزل أسرته، وتم إيداعه بسجن باب الخلق لمدة ثلاثة أشهر، مارس خلالها الشيخ أسلوب الإضراب عن الطعام للضغط على الإنجليز والسلطات للسماح له بزيارات الأهل، ثم أفرج عنه، إلا أنه حرم من مزاولة النشاط طوال فترة الحرب العالمية أي من 1914 ـ 1918م، وفي محاضر الجلسات الخاصة بالجمعية توقفت تلك المحاضر بين سنتي 1232 هـ ـ 1236 هـ، ولم يسمح ببيان أسباب هذا التوقف.
¤ دور الجمعية الشرعية في المقاومة:
ومن الآثار الهامة للجمعية الشرعية، أن الكثيرين من مناضلي ثورة 1919، ومن أعضاء المنظمات السرية المسلحة في ذلك الوقت كانوا أصلاً أعضاء في الجمعية الشرعية، مما يدل على مدي التأثير النضالي للتربية من خلال الجمعية، أو يدل على أن الجمعية أصلاً كانت ضالعة في تلك العمليات من خلال خلايا تابعة لها.
يقول أحمد حسين مؤسس حركة مصر الفتاة: إن عمالاً في ورش وعنابر السكة الحديد سنة 1919 كانوا أعضاء في الجمعية الشرعية، وكذلك كان عدد من المتهمين في حادث مقتل السير لي ستاك وعشرات الإنجليز من قبله كانوا أيضًا أعضاء في الجمعية الشرعية، وعلى رأس هؤلاء الشيخ أحمد جاد وهو زعيم عمالي وشخصية مهمة من الشخصيات التي اتخذت طريق الكفاح المسلح، وقد صدر حكم الإعدام على الشيخ أحمد جاد الله مع زعماء الثورة".
¤ اهتمامه بالقضية الفلسطينية:
برغم أن الهجمة الاستعمارية الصهيونية على فلسطين كانت في بداياتها الأولي ولم يظهر خطرها الكامل بعد في ذلك الوقت، إلا أن الشيخ السبكي وبوعي متقدم تنبه إلى المخاطر الحقيقية لتلك الهجمة الصهيونية، وإنطلاقاً من واجبه أدرك ضرورة مساعدة الشعب الفلسطيني، فقامت الجمعية الشرعية بإرسال كمية من المنسوجات إلى بيت القدس لتوزيعها على منكوبي فلسطين، وتلقي مجلس إدارة الجمعية رسالة محررة في 17 رجب 1349 هـ الموافق 8 كانون الأول ديسمبر..1930موقعًا عليها من رئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى بفلسطين وهو الشيخ محمد أمين الحسيني يشكر الجمعية على تبرعها وتضامنها مع الشعب الفلسطيني.
¤ شـــــــيوخه:
تلقى الشيخ الإمام العِلْمَ عن كثيرين، من بينهم:
شمس الدين الأنبابي الشافعي.
الشيخ سليم البشري المالكي.
الشيخ أحمد الرفاعي المالكي.
الشيخ إبراهيم الظواهري الشافعي- وهو من عُين آخر حياته شيخًا للجامع الأحمدي قبل النظام الحديث سنة 1312هـ، وتوفي سنة 1314هـ- 1906م.
¤ مؤلفـــــاته:
للشيخ العديد من المؤلفات نذكر منها:
* أعذب المسالك المحمودية في التصوف والأحكام الفقهية -أربعة أجزاء.
* حكمة البصير على مجموع الأمير، في فقه الإمام مالك -أربعة أجزاء.
* إصابة السهام فؤاد مَنْ حاد عن سنة خير الأنام.
* الرسالة البديعة الرفيعة في الرد على من طغى فخالف الشريعة.
* العهد الوثيق لمن أراد سلوك أحسن طريق.
* النصيحة النونية في الحث على العمل بالشريعة المحمدية.
* سيوف إزالة الجهالة عن طريق سنة صاحب الرسالة.
* المقامات العلية في النشأة الفخمة النبوية.
* السم الفعال في أمعاء فرق الضلال.
* الصارم الرنان من كلام سيد ولد عدنان.
* الرياض القرآنية في الخطب المنبرية.
* خلاصة الزاد لمن أراد سلوك سبيل الرشاد.
* رسالة البسملة.
* إتحاف الكائنات ببيان مذهب السلف والخلف في المتشابهات.
* المنهل العذب المورود، شرح سنن الإمام أبي داود.
* الدين الخالص، أو إرشاد الخلق إلى دين الحق.
* محور الوصول إلى حضرة الرسول.
وقد توفي الشيخ محمود السبكي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته، في 7 يوليو 1933 عن عمر يناهز 75 عامًا.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.